وسلاحه البكاء (رواية)
2 مشترك
العمــــدة :: القائمة :: الموضيع العامه
صفحة 1 من اصل 1
وسلاحه البكاء (رواية)
التوجّه نحو النور
لاحت من بعيد « ثَنيّات الوداع »، والقافلة المحمّلة بكنوز كسرى تشقّ طريقها بجلال تحرسها خيول ودروع.
كانت الشمس قد بزغت كأنّها تستقبل العائدين؛ أو لترى فتاة حملتها الأقدار من أرض النار، كانت تُمعن في الفرار ولكن دون جدوى.
اقترب صحابيّ أراد أن يحادثها.. أن يقول لها كان سلمان يعيش في المدينة وكان رجلاً من أهل البيت، كان يعيش في أرضكم ولكنّه جاء يبحث عن النور ففرّ من النار.
تمتم أسفاً وودّ لو كان سلمان حاضراً، تمنّى لو أنه قد تعلّم منه لغة أهل تلك الديار.
هبّت نسائم طيبة، فتذكّر حادثة قديمة لن ينساها يوم وصل رسول السماء أرض طِيبة، فصدحت الفتيات يغنّين للبدر الذي أشرق في سماء المدينة.
حانت منه التفاتة فألفى بنت كسرى حزينة لَكأنّ وجهها المضيء تغمره غيوم وغيوم.
تساءل في نفسه؛ تُرى ماذا سيكون مصيرها ؟! إنّها سبيّة على كلّ حال. هذا هو منطق الحرب.
كان الموكب يقترب من المدينة. تمايلت سعفات النخيل، وهبّت نسائم طريّة مشبعة برائحة الخضار.
تذكّرت بنت آخر ملوك ساسان قصورها المنيفة، وتعجبت أن تكون هذه المدينة عاصمة الدولة التي لاتُقهر! كيف هزم هؤلاء الحفاةُ العراة جيوشَ كسرى حتّى لم يتركوا لـ «يَزْدجُرد الثالث» مكاناً في خراسان ولا في نيسابور ولا سرخس ولا طوس، وها هي الأنباء تطير في الآفاق عن عبورهم « باب الأبواب » في بلاد الخزر، تأوّهت بحزن:
ـ آه! منتصر أنت يا هرمز.
المسجد يكتظ بالناس، وقد أشرفت عذارى المدينة يتطلّعن الى ابنة الملوك، إلى جمال فارسي يختطف القلوب والأبصار.
كانت الفتاة تدرك ما سيحلّ بها، بعد قليل سوف تكون جارية في بيت طيني من بيوت المدينة. تجمّعت الدموع في عينيها كغيوم ممطرة، راحت تتصفح الوجوه المحدِّقة بها.. التقت عيناها وجهاً أفتر عن ابتسامة أراد أن يبدّد عنها خوفاً غامضاً فقال:
ـ ما اسمك أيتها ؟
دُهشت لهذا الرجل الذي يتحدّث بلغتها..
أجابت باستحياء:
ـ ملكة النساء.
أراد الرجل الذي يشبه الأسد أن يمنحها اسماً جديداً فقال:
ـ شَهْربانو.
ابتسمت الفتاة وشكرت في أعماقها الرجل لهذه الهدية.
ما أجمله من لقب.. سيّدة المدينة.
سأل الرجل وقد أراد أن يكتشف ما تعلّمته من الزمان:
ـ هل حفظتِ عن أبيك شيئاً ؟
أجابت بلوعة:
ـ كان يردّد قبل مصرعة: إذا غلب الله على أمر ذلّت المطامع دونه، واذا انقضت المدّة كان الموت في الحيلة.
ابتسم الرجل الذي تنفجر الحكمة من جوانبه:
ـ ما أحسن ما قال أبوك، تذلّ الأُمور للمقادير، حتّى يكون الحتف في التدبير.
ساد الصمت ووقفت الفتاة تنتظر النهاية مستسلمة، ها هي الأقدار ترسم الطريق من قمم الجبال الشاهقة الى الهاوية! من المجد والمُلك الى السَّبْي والعبودية. كانت على وشك أن تُعرَض في الأسواق بعد أن أمر الحاكم بذلك.
وقبل أن تخطو باتجاه النهاية ألقت نظرة رجاء على الرجل لعلّه يشتريها.
هفت الرجل معترضاً، رغم غضب الحاكم:
ـ لايجوز بيع بنات الملوك.
تذكّر الصحابة كلمات قالها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم وقعت سفّانة ابنة « حاتِم الطائيّ » في الأسر: ارحموا عزيزَ قومٍ ذَلّ.
لقد نسيها الجميع، وها هو أخو النبيّ يذكّرهم بعد تطاول الأيام.
ـ وما هو الحلّ إذن ؟! تساءل الحاكم حنَقاً.
ـ أعرُض عليها أن تختار رجلاً من المسلمين يتزوّجها، ويُحسَب مهرها من عطائه.
تصاعدت صيحات الاستحسان من زوايا المسجد. كانوا بشوق الى ملكة فارس، تُرى مَنْ ستختار؟! إنّها على كلّ حال تمثّل أُمّة كانت تحكم نصف العالم ذات يوم.
وراحت ابنة كسرى تبحث عن رجل تلوذ به، تتأمّل الوجوه تبحث عن الإنسان.. تبحث عمّن يهبها رحمة الأب ودفء الأُمّ.
واستقرت عيناها على شابّ أقنى الأنف، كأن عينيه نافذتان تطلاّن على عوالم تزخر بالنور والصفاء والحريّة؛ فأشارت اليه.
هتف بعضهم إعجاباً:
ـ ما أحسن ما اختارت! وهل هناك من هو أشرف من سبط محمّد وابن سيّد العرب.
قال سيّد العرب لابنه وقد تذكّر نبوءةً سمِعها من رسول السماء:
ـ لَيلِدنّ لك منها صبيٌّ هو خير أهل الأرض.
الرحيل المبكّر
كانت ترنو الى وليدها بعينين مجهدَتين، وها هو يغفو الى جانبها كقمر صغير، كوردة نسرين تتفتح للربيع.
كانت ترنو إليه بحزن. نداء ما يضجّ في أعماقها كأنّه يدعوها للرحيل. الرحيل الى عوالم بعيدة.
فتح الصبي عينَيه كأنّه يبحث عن أُمّه؛ هزّ المهد بقدمه الصغيرة.
تجمّع خوف بريء في عينيه، وطافت وجهَه المستدير غيمةٌ حزينة وانبعث صراخ طفولي فيه نشيج الميازيب في مواسم المطر.
كان الصوت يخترق أُذنيها.. يدوّي في أعماقها يفجّر ينبوع الأُمومة.. ولكنّ الجسد الخائر لم يَقوَ على الحراك، وقد أوشكت الروح على الرحيل والصبي يصرخ ويصرخ كأنّه يتشبّث بروح وهبته الروح.
تمتمت بأسى:
ـ ابكِ يا ولدي الحبيب.
ثم أغمضت عينيها الواهنتين لتغفو بسلام؛ فيما ظلّ الصبي يبكي.
كانت السماء تسحّ مطراً ناعماً، وكأن الغيوم تبكي بصمت، وامتزج بكاء الصغير مع نشيج الميازيب. لكأن الأقدار رسمت لهذا الصبي طريقاً منقوعاً بالدموع مضمَّخاً بحزن سماويّ ورثه أجداده عن آدم يوم قُتِلَ هابيل.
وتمرّ السنين، والتاريخ يشعل الحوادث المدمّاة هنا وهناك.
تدفقت دماء جدّه في المحراب قانيةً تلوّن أُفق التاريخ، حتّى إذا مضت خمسون سنة على الهجرة أشعل التاريخ حادثة في منزل عمّه سبط النبيّ وريحانته.
كان الحسن يتلوّى من الألم.. آلام رهيبة كخناجر تغوص في قلبه تمزّق كبِده.
وقف عليّ إلى جانب أبيه يراقب عمّه بحزن.
هتف الحسين عليه السّلام بمرارة:
ـ ألا تُخبرني بمَن دسّ إليك السمّ ؟
تمتم الحسن عليه السّلام وكأنّه يحدّث نفسه:
ـ لقد سُقيتُ السمّ مراراً فلم يفعل مثل هذه المرّة.
شعر بأن ناراً مجنونة تشعل الحرائق في أعماقه، ماذا يقول لأخيه ؟! انّه يعرف من دسّ السمّ، هناك في بلاد الشام رجل من طلقاء جدّه يخلط السم بالعسل.. سلاح جديد يستخدمه منذ سنين بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
رجل تحوطه سيوف وقلاع؛ وما « جعدة » إلاّ ضحية مرض وبيل، عقدة ورّثها قابل أبناءه.
وأغمض الحسن عينيه ليفتحهما في عالم آخر.. عالم مليء بالمسرّات الخالدة.
ومضى التاريخ يشعل الحوادث، مات « ابن كلدة » طبيب العرب وكان قد أخذ الطبّ عن أهل فارس، وماتت عفراء وكانت من أهل البادية يتغنَّون بقصّة حبّها العذري لابن حزام؛ وماتت ميمونة وكانت امرأة وهبت نفسها للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
مضى التاريخ يشعل الحوادث، ارتفعت في سماء « الفسطاط » بمصر أوّل منارة في الإسلام، والجيوش الإسلامية تدقّ بعنف أبواب القسطنطينيّة واستُشهد أبو أيوب الأنصاريّ فدُفن تحت أسوارها.
ومات سعد بن أبي وقّاص آخر المهاجرين وترك بقصره « العقيق » ذهباً وفضة وابناً سيسلّ سيفه لمحو التاريخ الهجري.
رقصة النمر
دار الزمن دورته وأطلّ عام ستين، عام فيه يُضام الناس وفيه يعصرون، مات معاوية.. وقد حوّل المنبر الى عرش فأورثه ليزيد. كان يزيد في « حوران » يقضي وقته في ملاعبة قرده، مستمتعاً بكلاب الصيد الّتي ملأت الجوّ نباحاً كشرطة أغضبها فرار ثائر كانت قد ألقت القبض عليه.
دخل قصره وقد بدت عيناه جمرتَين متوقّدتين. ألقى نفسه على السرير وأشار إلى الحاجب إشارة عرف مغزاها على الفور.
دخلت جارية رومية تحمل إبريقاً فيه خمرة معتّقة، برقت عيناه شهوة وكادت نظراته تفترس مفاتنها.
كان الحاجب يصغي من وراء الأبواب الى ضحكات خليعة.
غرقت « حرّان » في بِركة الظلام، توثّبت شياطين الجنّ والانس وتحفزت النمور المختبئة، حطّمت قضبان الصدور، وراحت تعربد.
يزيد يتقلّب على فراش نسجته ديدان القز، والى جنبه تمدّد قرده « أبوقيس » فاغراً بوزه ببلاهة.
وفي عالم الأشباح رأى أنهاراً من دم تتدفق ما بين « الشامات » وبين « الحِيرة »، ورأى جماجم وضحايا؛ أجساداً بلا رؤوس ورؤوساً بلا أجساد، ورأى نفسه يخوض أمواج الدم، يغرق في بركٍ حمراءَ حمراء.
هبّ من نومه مذعوراً، وقد توقدت عيناه فبدت كجمرتين أو كوّتين مفتوحتين على جحيم مستعرة.
فجأة دخل أحدهم يحمل معه كتاباً .. فأوجس يزيد خيفة. كانت سحنة الرجل بلا لون؛ فقد حار هل يظهر حزنه بموت معاوية، أم يتظاهر بفرح من أجل يزيد، خليفة للمسلمين جديد!
رقص النمر المتوثب في الأعماق.. وجد نفسه طليقاً حرّاً. ها هي الدنيا تركع عند قدميه، والرجال تحني هاماتها له، سيكون الآمرَ الناهي من شواطئ بحر الخزر الى عدن.
فجأة قفز اسم الحسين الى الذاكرة. هتف متوعداً:
ـ هذا الشجى الّذي يعترض حلقي.
أصدر يزيد أوّل أوامر الخلافة:
ـ إلى دمشق.
بدء العاصفة
كانت أزّقة المدينة غارقة في اللّيل، وبدت النجوم كقلوب واهنة تنبض من بعيد، وقد جنح القمر المثلوم للمغيب فبدا كوجه مكدود أرهقه السهر.
كان رجل يمضي قُدُماً يشقّ طريقة في الظلام، وفي رأسه فكرة واحدة؛ أن يبلّغ الحسين بدعوة « الوليد » أمير « المدينة » وحاكمها المطاع.
أفاق عليّ عليه السّلام على صوت خبطٍ للباب، وأدرك أنّها قبضة شرطي جاء بأمر ما.
قال الحسين عليه السّلام وهو ينظر إلى النجوم البعيدة:
ـ رأيت في عالم الأطياف منبر معاوية منكوساً وقد شبّت النار في قصره.. وما أظنّه إلا هالكاً، فجاءوا يأخذون البيعة ليزيد.
أمسك سبط محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم قضيباً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال رجل هاشمي:
ـ قد يغتالونك، فالظلام يخفي سيوفاً وخناجر.
أجاب ابن محّمد:
ـ لا تخشَ شيئاً. أنتم ثلاثون رجل، تأهّبوا عند الباب، فاذا سمعتم صوتي قد علا، فاقتحموا.
جلس الحسين عليه السّلام قبالة الوليد، وكان ابن الزرقاء ينظر بحقد ولؤم.. تمتم الوليد وكأنّه يلوك الكلمات بصعوبة:
ـ كان معاوية سور العرب.. قطع الله به الفتنة وملّكه على العباد وفتح به البلاد، إلا أنّه قد مات فخلّف يزيدَ من بعده وهو يريدك أن تبايع.
أجاب الحسين:
ـ مثلي لا يبايع سرّاً.. فاذا دعوتَ الناس غداً دعوتني معهم.
أطرق الوليد وقال:
ـ صدقت أبا عبدالله، انصرف إلى منزلك.
انبرى مروان بخبث:
ـ احبسْه أيّها الأمير حتى يبايع أو تضرب عنقه.
هتف الحسين عليه السّلام بغضب:
ـ يا ابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟!
وأردف وهو يخاطب « الوليد » معلناً صرخة مكبوتة منذ عشرين سنة:
ـ أيّها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلَف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيدُ شاربٌ للخمر قاتل للنفس المحرّمة، ومثلي لا يبايع مثله.
حاول الوليد أن يتفادى العاصفة بمثلها، فالتمعت خناجر في الظلام واقتحم رجال دار الإمارة، ولاذ ابن الزرقاء مرعوباً خلف أميره.
غادرت العاصفة مجلس الأمير.. تركته خاوياً على عروشه، وأطلّ « مروان » كجردٍ يُخرج رأسه بحذر:
ـ عصيتني ولن تحصل على مثل هذه الفرصة.
ـ وبِّخْ غيري يا مروان. أتريدني أن أقتل سبط محمّد ؟!
ـ إذن لن يبايع حتّى تتساقط القتلى.
هز الوليد رأسه دون أن ينبس ببنت شفة. ربما كان يفكر بالأفق المضمّخ بلون الدماء، إنّه يعرف يزيد.. ذلك النزِق المتهور. أو لعلّه كان يعقد مقارنة بين مروان وأُمّه الزرقاء، وكان بيتها تخفق فوقه الرايات حيث يعبر الرجال مستمتعين. وبيت الحسين عليه السّلام حيث منزل فاطمة مختلَف الملائكة وأثر جبريل. يالَسخرية القدر!
وعندما أوى الوليد الى فراشه همست زوجته بمرارة:
ـ كيف تسبّه؟!
ـ هو بدأني بالسبّ أوّل مرّة.
ـ أتسبّه وتسبّ أباه إن سبّك.
أغمض عينيه المحتقنتين وتمتم بندم:
ـ لن أفعل ذلك أبداً.
في الطريق إلى مكّة
هجعت العيون، وأوت الكائنات إلى مضاجعها .. فالليل أعشاش دافئة، ومنازل هادئة، وعالم تطير فيه الأرواح تحلّق بعيداً في دنيا شفّافة، تتسلل من ثيابها السفلى، تخلع أهابها الجسدي لتحلّق في عوالم الذرّ؛ ولو أصغيتَ السمع تلك الليلة لسمعت خطىً هادئة تتخذ سمتها نحو قبر يضمّ رسول السماء إلى الأرض، ولو دققت النظر لرأيت رجلاً أقنى الأنف أشمَّه، في عينيه تتألّق النجوم، أنفاسه كأنفاس الفجر في لحظات الفلق.
كان السبط يشقّ طريقه في أزقّة المدينة الغافية، فهي لاتصحو على صوت خطاه، إنّها لن تستيقظ إلاّ على سنابك خيل مجنونة، هاهو يتخذ سبيله نحو جدّه ينوء بحمل أمانة أبت السماوات حملها والأرض.
أدرك عليّ ما يموج في أعماق أبيه من هموم، منذ زمن وهو يصغي إلى استغاثات تأتي من بعيد.. من أرض السواد، من مدينة كانت ذات يوم عاصمة جدّه، ها هي اليوم تستيقظ .. تتأوّه من سياط الجلاّدين، تبحث عن رجل منحها المجدَ يوماً ما.
كان عليّ عليه السّلام في ركن من حجرة طينية متوجهاً بكلّيته صوب أوّل بيت وُضع للناس، قلب يخفق كما يخفق النجوم بضوئها الأزرق.
تنساب الكلمات من بين شفتيه كنهرٍ هادئ تترقرق في سمع الكون، لحظات يلتحم فيها الإنسان بالعالم الأكبر في لحظة اكتشاف كبرى، حيث تنحسر الأشياء عن ظاهرها الخادع، فتبرز الحقيقة ناصعة أن لا شيء سوى الله.. الله وحده. الكلمات الإنسانيّة تتدافع كأمواج متلاحقة باتجاه عوالم لا نهائية.. وحده صوت الإنسان يعبّر عن الحقيقة في صمت الليل:
ـ اللّهمّ يا ملاذَ اللائذين.. ويا مَعاذَ العائذين.. ويا عاصم البائسين.. ويا مجيب المضطرين.. ويا جابر المنكسرين.. ويا مأوى المنقطعين.. ويا ناصر المستضعفين.. ويا مُجيرَ الخائفين.. ويا مغيث المكروبين. إن لم أعذ بعزّتك فبمن أعوذ، وإن لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ ؟!
ما أجمل أن يلتحم الإنسان بمسيرة الكون.. وما أسمى أن يكتشف طريقه إلى الله.. وما ألذّ لحظات الحبّ عندما تعرف النفس بارئها فتحلّق بين النجوم وتصطف مع الملائكة تسبّح بحمد ربّها.. فاذا الكون محراب عبادة، والمجرّات محطّات رحيل.
الرواحل تتّخذ طريقها صوب مكّة، وصوت له نفحة السماء يخترق آذان الليل:
ـ فخرج منها خائفاً يترقّب، قال: ربِّ نجّني من القوم الظّالمين.
الصحراء مدُّ البصر، والطريق الّذي رسمته القوافل منذ عشرات السنين يتألّق في ضوء القمر كأنّه يشير إلى مكّة مهوى الأفئدة.
عاد الصوت الملائكي يعيد إلى الأذهان قصّة الشريد الّذي اخترق صحراء سيناء وحيداً:
ـ ولمّا توجّهَ تِلقاءَ مَدْيَن قال: عسى ربّي أن يهديَني سواءَ السبيل.
ـ إلى أين يا ابن محمّد ؟
ـ إلى مكّة.
ـ ألم يهاجر جدّك إلى يثرب بحثاً عن وطن.. عن أرض يُعبَد فيها الله وحده؟
ـ أجل ويثرب في قبضة الطلقاء.. في أيدي أعداء الأمس.
ـ كيف عبروا الخندق ؟
ـ لقد رُدم الخندق في « السقيفة » .. بعد أن أغمض النبيُّ عينيه.
إلى حيث لقاء الله..
يا مكة.. يا مدينةً مترعة بالحزن، لم تَطُل فرحتك سوى عدد سنين يوم تهاوت الأصنام أنقاضاً عند جدران البيت العتيق، جاءت أصنام أُخرى.. أصنام من طين.. من صلصال من حمأ مسنون.
وها هو حفيد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء ليحطّم الأوثان الآدميّة... ولكن كيف ويزيد عِجل له خوار.. وقد عكفت الأُمّة عليه فلا صوت ولا رأس يرتفع.. ليقول: لا..
لماذا يدور الحسين في شوارع المدينة.. يطوف حول الكعبة العظيمة.. يدور حول البيت.
لماذا يسعى بين الصفا والمروة يبحث عن نبع ماء مفقود، فمكّة عادت من جديد وادياً غير ذي زرع..
لمَ يبكي عند « خديجة » ؟! فالعام عام حزن وقد غاب أبوطالب وأضحى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيداً يبحث عن أنصاره ليهاجر.
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى:
ـ يا حسين عجّل بالخروج؛ فابن العاص قادم ومعه أمر باغتيالك.
ـ لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم.. رضا الله رضانا أهلَ البيت... ألا من كان موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معي، فإنّي راحل.
ـ إلى أين يا أباعبدالله؟
ـ إلى صحراء بين النواويس وكربلاء.
قال رجل مشفق:
ـ امكث في مكّة فأنت سيّد الحجاز.
ـ لا أُريد أن تُستَحلّ حرمة البيت بقتلي ؟
ـ وهل يجسرون على قتلك ؟!
ـ أجل، لَيعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت.
وقال أخوه من أبيه:
ـ كيف تثق بأهل الكوفة وقد غدرت بأبيك وأخيك ؟
ـ أخشى أن يغتالني يزيد في الحرم فتُستباح حرمة البيت.
وعندما استوى الحسين على ناقته، قال أخوه وقد أخذ بزمامها:
ـ لا تأخذ النسوةَ معك إذن.
قال الحسين وهو ينظر إلى الأُفق المضمّخ بحمرة الشفق:
ـ شاء الله أن يراهنّ سبايا.
ثمانية أيام مضين من شهر ذي الحجّة، غادرت قافلة عجيبة ديار مكّة.. كانت تسير على هون، وبدت الجمال كسفن تبحر في صحراء متموّجة تريد أن تحدّد للتاريخ وجهة جديدة.
النّجوم تتألّق في سماء بدت كعباءة عربية غارفة في الكحل، أشرق هلال المحرّم فبدا في غمرة الظلام وامتداد الرمال ابتسامة مكلوم، أو زورق يودّع بحيرة رائقة.
سرٌّ ما شدّ القافلة إلى هذه البقعة من دنيا الله، لكأنّما تسمّرت حوافر الخيل وبركت النياق كسفن ألقت مراسيها في مرفأ مهجور.
شعر عليّ عليه السّلام بالاعياء يسري في جسده حتّى سلبه القدرة على النهوض، ولكنه جرجر نفسه بعناء إلى خيمة جلس فيها الحسين يرسم لأصحابه طريقاً عجيباً.
تمتم الحسين آسفاً:
ـ النّاس عبيد الدّنيا، والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم.
وسكت هنيهة وأردف:
ـ قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون... وإنّ الدّنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل.. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله.. فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظّالمين إلاّ برما.
هتف زهير وكان قد التقى الحسينَ على قدر:
ـ لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا خالدين فيها لاخترنا الموت معك.
قال برير وكان من قرّاء الكوفة:
ـ انّها نعمة يابن رسول الله أن نقاتل معك وأن، تُمزَّق أجسادنا؛ ليكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.
وهتف ابن هلال بحماسِ من اكتشف ينابيع الخلد:
ـ سِرْ بِنا راشداً شرقاً شئت أو غرباً.. انّا نحب لقاء ربّنا على نيّاتنا وبصيرة من أمرنا.. نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
انبرى الرجال لدقّ أوتاد الخيام كأنّهم يحدّدون معالم مدينة ستولد فيما بعد.
ازدحمت في السماء سحب كأكوام من الرماد تتراكم بعضها فوق بعض، وبدا الجوّ مشحوناً بالغضب؛ واختلطت أصواب الرجال برُغاء الجمال وصهيل الخيل وقعقعة الأسلحة.
انتشر أربعة آلاف من الّذين لا إيمان لهم على طول شاطئ الفرات، وبدت الرماح باتصالها خناجر في خاصرة النهر حيث راحت أمواجه تتدافع باتجاه الجنوب فراراً من نفوس مكتوب عليها الشحّ ولو بقطرة ماء.
مرّت سبعة أيّام من المحرّم، والحصار يشتدّ. كان « ابن سعد » يمنّي نفسه باستسلام القافلة، فالماء يعني الحياة، ومنعه يعني الموت، وهل هناك من يختار الموت على الحياة ؟
ـ ولكنّ فيها أطفالاً.
ـ ليكن، إنّها الحرب.
ـ لقد سقانا الحسين قبل أيام.. سقى ألف إنسان وألف حصان.
ـ لأنّه لايعرف لعبة الحرب..
ـ بل لأنّه إنسان.
ـ ونحن؟!
ـ أنتم لم تعودوا شيئاً. لقد مات الإنسان في أعماقكم، وانتصر الخنزير القابع في نفوسكم.
ـ كفى هراءً .. سوف يستسلم الحسين وعندها سأنطلق إلى « الريّ وجرجان ».. سأحكم بلاداً واسعة.
ـ والحسين ؟!
ـ الحسين.. الحسين.. ليتنحَّ عن طريقي وإلاّ سأعبر فوق جسده... ولتمزّقه سنابك خيل مجنونة.
الذي مات قبل أن يموت
كانت مضارب القافلة بين يدي « ذو حسم »، ولو قُدّر لأحد أن يراقب من فوق قمته المكان لرأى خياماً متناثرة هنا وهناك حيث يمرّ الفرات تتدافع أمواجه كأفعى مذعورة.
كان الحسين عليه السّلام واقفاً أمام خيمة تعصف بها الريح من كلّ مكان. ينظر الى الأُفق البعيد البعيد كما لو أنّه ينظر إلى آخر الدنيا.
جنحت الشمس للمغيب.. رسمت لوحتها الحزينة في السماء كجراح الأنبياء؛ وشيئاً فشيئاً غادرت حمرة الغروب وامتلأ الأُفق رماداً، وفتحت النجوم عيونها وراحت تنبض في صفحة السماء كقلوب خائفة.
في غمرة الظلام المهيمن وقد سكنت الأصوات فلا تسمع إلاّ همساً، هتف ابن سعد متوجّساً وهو يتطلّع إلى « ابن قرظة »:
ـ ماذا تريد ؟!
ـ أرسلني الحسين للاجتماع بك بين المعسكرين.
ـ ومن معه ؟
ـ أخوه العباس وابنه علي.
التفت ابن سعد إلى غلامه وإلى ابنه حفص:
ـ انهضا معي.
كان ابن سعد يجرجر خُطاه مترنّحاً، وآلاف الأفكار تتراكض في رأسه كأرانب مذعورة، قال في نفسه:
ـ تُرى ماذا سيفعل الحسين ؟! هل يفرّ في جنح الظلام ؟ هل يستسلم ؟ هل يقاتل ؟
ولكن كيف يفرّ من كان أبوه عليّاً ؟ وكيف يستسلم سبط محمّد « للطُّلَقاء » ؟!
أم تراه سيقاتل بسبعين رجلاً !!
لاح الحسين من بعيد كنخلة هيفاء.
هتفت ابن سعد مأخوذاً:
ـ أيّة روح ينطوي عليها هذا الرجل ؟!
ـ أتحاربني يا بن سعد.. وأنا ابن مَن تعرف ؟!
وسكت هنيهة ثم أردف مضيئاً له الطريق:
ـ كن معي ودع هؤلاء فهو أقرب إلى الله.
انتصبت أحلام ابن سعد أمام عينيه.. تجسّدت رؤى وخيالات طالما شغلت رأسه واستحوذت على روحه.
رأى فتيات جميلات في القصور يمرحن بغنج، فقال بنفاق:
ـ لسوف يهدمون داري.
ـ أنا أبنيها لك.
ـ وبساتيني.. إنّهم سوف ينتزعونها مني.
ـ أُعطيك « البُغيبغة » فيها زروع كثيرة ونخيل.
ـوعيالي ؟! إنني أخشى عليهم بطش ابن زياد.
أدرك الحسين أنّ هذا الرجل قد مات منذ أمد بعيد.. لم يعد سوى جثّة نتنة.
نهض السبط وقال بغضب:
ـ ما لك ؟! ذبحك الله على فراشك..
وانكشفت له صفحة الغد فقال:
ـ لن تأكل من قمح العراق إلاّ يسيراً.
تمتم « ابن سعد » وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه:
ـ في الشعير كفاية!
ما الدنيا بلا حسين ؟!
جثم صمت رهيب فوق المكان وألقى الحزن كلاكله كغراب أُسطوري؛ والقلوب الصغيرة الظامئة تصغي إلى أصوات بعيدة تأتي من جهة الفرات كعواء ذئاب جائعة في ليلة شتائية. قالت امرأة اسمها زينب:
ـ لقد اقترب العدوّ.
التفت الحسين إلى أخيه:
ـ انهض لترى ماذا يريدون.
عوى ذئب من بعيد:
ـ الاستسلام أو الحرب.
هتف حبيب مستنكراً:
ـ بئس القوم أنتم غداً عند الله.. أتقتلون سبط النبيّ وقوماً متهجدين بالأسحار يذكرون الله كثيراً ؟!
قال عزرة وقد برقت عيناه بشهوة الغزو:
ـ إنّك تزكّي نفسك ما استطعت.
ردّ زهير:
ـ ان الله قد زكّاها يا عزرة. لقد سوّلت لكم أنفسكم أمراً عظيماً !
ـ ومتى كنت شيعة للحسين يا زهير ؟!
ـ جمع بيني وبينه الطريق.. فذكرت به محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال عزرة بصفافة:
ـ إنّنا نمتثل لأمر خليفته.
ـ يزيد !!
ـ أجل أميرالمؤمنين يزيد.
هتف العباس ليضع حدّاً للمرارة:
ـ إذن أمهلونا هذه العشية إلى غد.
ردّ ابن سعد وقد ذهبت به الظنون:
ـ إلى غد.. ولكن إمّا الاستسلام أو الحرب.
أصدر ابن سعد أمره بالانسحاب، وشيئاً فشيئاً انحسرت قعقعة السلاح وكفّت الخيل عن الصهيل، ولم يبق سوى أصوات تشبه عواء الذئاب في ليالي الزمهرير.
تسمّر التاريخ عند خيمة أضاءها سراج واهن.. كان يصغي إلى كلمات آخر الأسباط:
ـ أحمدك اللّهمّ على أن أكرمتَنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدّين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين.
كانت نظراته الدافئة تغمر رجالاً ينشدون الموت من أجل الحياة، فانسابت كلماته كنهرٍ هادئ:
ـ إني لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ من أهل بيتي.. وإنّي أظنّ أنّ يومنا من الأعداء غداً؛ وانّهم انّما يطلبونني ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري، فانطلقوا جميعاً وهذا الليل فاتّخِذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في المدن البعيدة.
ـ وأنت يا سيدى ؟
ـ ما كان للحسين أن يفرّ.
ـ ما قيمة الدنيا كلّها سواك.
قال ابن عوسجة:
ـ والله لو لم يكن معي سلاح لقاتلتهم بالحجارة.
وقال الحنفي:
ـ لو قُتلتُ سبعين مرّة ما تركتك، فكيف وهي قتلة واحدة.
وقال زهير وهو يتطلّع إلى وجه مضمخ بعبير النبوّات:
ـ لو قُتلتُ ألف مرّة فلن أدعك وحيداً.
وفي تلك اللحظات حيث تلتحم السماء بالأرض أشار الحسين فانكشفت الآفاق عن جنّة عرضها كعرض السماوات والأرض.. جنّات من نخيلٍ وأعناب، والأنهار الخالدة تتدفّق مطّردة، بدا الفرات إزاءها كخيط من الملح والرماد.
الوصيّة المريرة
يالها من ليلة عجيبة تمرّ لحظاتها كسنينَ متمادية، وساعاتها كالقرون لا تكاد تنتهي لكأنّها تريد أن تستوعب التاريخ البشري بأسره.
جلس عليّ متهالكاً وبدا جسمه حطاماً حتّى لم تعد له قدرة على النهوض، يتطلّع إلى النجوم.. إلى عالم لا نهائي.. عالم مفعم بالصفاء.. عالم بعيد عن ويلات الأرض وما يجري فيها على يد الإنسان.
كانت خيمته إلى جوار خيمة أبيه.
الحسين عليه السّلام وحيد وحيد.. يعرف أنّها النهاية أو البداية.. راح عليّ عليه السّلام يرهف سمعه لكلمات أبيه وهي تمتزج مع صوت يشبه شحذ السيوف.. فالمعركة وشيكة قابَ قوسين أو أدنى.. وغداً يومُ الفصل.
تطلّع الى عمّته التي دخلت توّاً ربما لتمرّضه.. جاء صوت الحسين هادئاً مثل لحن حزين، فيه عتاب للزمن الذي لا يكفّ عن الغدر:
يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ
كم لك بالإشراق والأصيلِ
من طالبٍ بحقّه قتيلِ
وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي
ما أقرب الوعدَ إلى الرحيلِ
والدهرُ لا يقنع بالبديلِ
شعرَ عليّ بالكلمات تغوص في قلبه.. تُمزّق شرايينه وتذبحه من الوريد إلى الوريد، كاد أن يغرق في موجة طاغية من البكاء، والبكاء يكاد يكون سلاحاً لمواجهة الزمن الغادر. فهذا الغضب المتفجر في الأعماق يدمّر الأشياء.. يحيلها الى حطام إذا لم يجد متنفَّساً له في الدموع. فالسماء ما تزال مشحونة لا تكفّ عن البروق، والرعود لن تهدأ حتّى ينهمر المطر مدراراً.
وبكى عليّ بصمت كسماء تمطر على هون.
لم تتمالك زينب.. لم يتحمل صبرها العجيب ما تسمع، فهبّت تجرّ الذيول الى خيمة كالعرين.
هتفت بصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر:
ـ ليت الموت أعدمني الحياة.. اليوم ماتت أُمّي فاطمة وأبي عليّ.. يا خليفة الماضين وثمال الباقين.
ورمق الحسين شقيقته الّتي اختارت طريقه، وقال مصبّراً.
ـ يا أُختاه، تعزَّي بعزاء الله.. إنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وكلّ شيء إلى . زوال ويبقى وجه الله وحده.
قالت وهي تنتحب:
ـ أفتغصب نفسك اغتصاباً.. إنّ قلبي لا يطيق.
كان صمت الليل كفيلاً أن يجعل من الأُذن الآدمية مرهفة تلتقط حتّى دبيب الهوام، فكيف بالبكاء في زمن غادره الفرح وبدت مقرفة فيه الأشياء.
وجد الحسين نفسه وسط نسوة ينشدن الأمن في زمن الخوف، كطيور مذعورة تبحث عن أعشاشها في غمرة الظلام.
نظر الحسين إلى زينب نظرة طويلة أودعها كلّ ما يريد.
قال بحزن:
ـ يا أُختاه ويا فاطمة ويا رباب.. إذا قُتلت فلا تشقُقْن علَيّ جيباً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تلقن هجراً.
نهض الحسين يواجه الغد القادم بعد ساعات، فلقد اشتدت ظلمة الليل، وبدت النجوم أكثر بريقاً لكأنّها عيون مفتوحة ترقب ما يجري على شاطئ الفرات بين النواويس وكربلاء. وهناك على شاطئ النهر قطعان الذئاب تنتظر لحظة الانقضاض على الانسان.
لئلاّ تتكرّر « أُحد »
ما تزال النجوم مسمَّرة في السماء كمسامير في لوح كُحْلي وقد بدا الجوّ مشحوناً بالخطر، فالقافلة التي ألقت مراسيها في هذه البقعة من الأرض تحاصرها قطعان الذئاب.
خرج الحسين يتفقّد أرضاً ستصبح بعد ساعات ميداناً لملحمة عظيمة يتحطّم فيها الإنسان، ولكنه لن يُهزَم أبداً، تتمزّق فيها الأجساد الآدميّة، أمّا الروح فستبقى متألقة قويّة كما خلقها الله وأودع فيها كلمته.
هتف « الجَمَلي » وكان قد أقلقه خروج الحسين إلى أرض يُحدِق بها الغدر من كل مكان:
ـ الى أين يا سيّدي الحسين ؟ لقد أفزعني خروجك وحيداً، أخشى عليك الغدر.
ـ خرجتُ أتفقّد هذه التلال.. أخشى أن تكون مَكْمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون.
و أردف وهو يشدّ على يده بدفء:
ـ انظر .. خيامنا مكشوفة الظهر؛ علينا أن نحفر الخنادق حتّى لاتفاجئنا الخيل.. والخيام مبعثرة، علينا أن نقارب بينها حتّى لاينفذوا خلالها.
هتف الجملي مبهوراً برجل لا يعرف اليأس رغم عنف العاصفة:
ـ سيكون القتال في جبهة واحدة ؟
ـ نعم في جبهة واحدة..
لم تحنْ لحظة الفلق بعد عندما دبّت في معسكر الحسين حركة تشبه دويّ النحل.. النحل الذي لا يعرف غير العمل.
تشابكت أوتاد الخيام في عناق صميمي كأنّه يعكس تلاحم القلوب.. القلوب التّي لا تعرف غير الحبّ.
وانبرى رجال يحفرون الخنادق ليملأوها حطباً؛ فإذا اشتعلت المعركة تحوّل الخندق الى خطوط ملتهبة.
شدّ رجل صحب النبيَّ وشهد معه « أُحداً » جبينه بعصابة فأضاء مشهد في ذاكرته.
كان صوت النبيّ وهو يخطط للمعركة عند جبل أُحد مدويّاً:
ـ انضحوا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا.
انطلق الرماة الى جبل « عينين » ووصايا النبيّ في آذانهم: احموا لنا ظهورنها.. ارشقوهم بالنبل؛ فإنّ الخيل لا تَقْدم على النبل .. انّا لا نزال غالبين مالبثتم مكانكم.
انطفأ المشهد.. وبلع الصحابي ريقه بمرارة لأنّه تذكّر كيف نسي الرُّماةُ وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فاجتاحت خيولُ قريش جيشَ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وراحت تفتك به كذئاب في ليلة زمهرير موحشة.
راح يحدّق بسبط محمّد لكأنّه ورث بصيرة جدّه.. رجل لا يعرف للهزيمة معنى.. انّه يقتحم الموت اقتحاماً، ينهال على صخرة العطش ليفجّر منها ينابيع من سلسبيل.
انفلق الفجر وتبيّن للكائنات الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وشيئاً فشيئاً لاحت من بعيد ذري النخيل تحف الشطآن كعيونِ حورية شهيدة .. وقد نزلت سورة المقاومة.
ها هي الذئاب تعوي أسكرتها شهوة القتل، كدوّامة راحت القبائل تدور حول قافلة جاء بها القدر.
كان عليّ ينوء بنفسه.. بجسده الواهن.. وقد أخفقت روحه العظيمة أن تنهض به؛ وفار غضب سماوي في أعماقه وهو ينظر إلى والده متقلّداً سيف محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل أشباه الرجال، إنّهم لا أيمانَ لهم.
تمتم بغضب:
ـ يا اُمّة السوء! بئسما خلفتم محمّداً في ذرّيّته.
ودمعت عيناه وهو يراقب أباه يستوي على ناقة. فبدا في عليائه كنبيّ يعِظ قومه وينذرهم سوء العذاب، راح يُصغي إلى كلمات الحسين وقد أشرقت شمسُ أطولِ يوم في التاريخ.
ـ أيّها الناس، إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فَناءٍ وزوال، متصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال؛ فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فانّها تقطع رجاء مَن ركن اليها، وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتمُ الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ ربُّنا وبئس العبيد أنتم. أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرّسول محمّد، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكرالله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون. إنّا لله وإنّا اليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين.
كانت الكلمات تنفذ في قلبه تفجّر حزناً وغضباً ودموعاً.
غامت المرئيات أمام عينيه، وتلاشت زعقات الرجال وصهيل الخيول، وشعر بروحه تحلّق بعيداً حتّى لم يعد يشعر بكلّ ما يجري حوله من أهوال.
لاحت من بعيد « ثَنيّات الوداع »، والقافلة المحمّلة بكنوز كسرى تشقّ طريقها بجلال تحرسها خيول ودروع.
كانت الشمس قد بزغت كأنّها تستقبل العائدين؛ أو لترى فتاة حملتها الأقدار من أرض النار، كانت تُمعن في الفرار ولكن دون جدوى.
اقترب صحابيّ أراد أن يحادثها.. أن يقول لها كان سلمان يعيش في المدينة وكان رجلاً من أهل البيت، كان يعيش في أرضكم ولكنّه جاء يبحث عن النور ففرّ من النار.
تمتم أسفاً وودّ لو كان سلمان حاضراً، تمنّى لو أنه قد تعلّم منه لغة أهل تلك الديار.
هبّت نسائم طيبة، فتذكّر حادثة قديمة لن ينساها يوم وصل رسول السماء أرض طِيبة، فصدحت الفتيات يغنّين للبدر الذي أشرق في سماء المدينة.
حانت منه التفاتة فألفى بنت كسرى حزينة لَكأنّ وجهها المضيء تغمره غيوم وغيوم.
تساءل في نفسه؛ تُرى ماذا سيكون مصيرها ؟! إنّها سبيّة على كلّ حال. هذا هو منطق الحرب.
كان الموكب يقترب من المدينة. تمايلت سعفات النخيل، وهبّت نسائم طريّة مشبعة برائحة الخضار.
تذكّرت بنت آخر ملوك ساسان قصورها المنيفة، وتعجبت أن تكون هذه المدينة عاصمة الدولة التي لاتُقهر! كيف هزم هؤلاء الحفاةُ العراة جيوشَ كسرى حتّى لم يتركوا لـ «يَزْدجُرد الثالث» مكاناً في خراسان ولا في نيسابور ولا سرخس ولا طوس، وها هي الأنباء تطير في الآفاق عن عبورهم « باب الأبواب » في بلاد الخزر، تأوّهت بحزن:
ـ آه! منتصر أنت يا هرمز.
المسجد يكتظ بالناس، وقد أشرفت عذارى المدينة يتطلّعن الى ابنة الملوك، إلى جمال فارسي يختطف القلوب والأبصار.
كانت الفتاة تدرك ما سيحلّ بها، بعد قليل سوف تكون جارية في بيت طيني من بيوت المدينة. تجمّعت الدموع في عينيها كغيوم ممطرة، راحت تتصفح الوجوه المحدِّقة بها.. التقت عيناها وجهاً أفتر عن ابتسامة أراد أن يبدّد عنها خوفاً غامضاً فقال:
ـ ما اسمك أيتها ؟
دُهشت لهذا الرجل الذي يتحدّث بلغتها..
أجابت باستحياء:
ـ ملكة النساء.
أراد الرجل الذي يشبه الأسد أن يمنحها اسماً جديداً فقال:
ـ شَهْربانو.
ابتسمت الفتاة وشكرت في أعماقها الرجل لهذه الهدية.
ما أجمله من لقب.. سيّدة المدينة.
سأل الرجل وقد أراد أن يكتشف ما تعلّمته من الزمان:
ـ هل حفظتِ عن أبيك شيئاً ؟
أجابت بلوعة:
ـ كان يردّد قبل مصرعة: إذا غلب الله على أمر ذلّت المطامع دونه، واذا انقضت المدّة كان الموت في الحيلة.
ابتسم الرجل الذي تنفجر الحكمة من جوانبه:
ـ ما أحسن ما قال أبوك، تذلّ الأُمور للمقادير، حتّى يكون الحتف في التدبير.
ساد الصمت ووقفت الفتاة تنتظر النهاية مستسلمة، ها هي الأقدار ترسم الطريق من قمم الجبال الشاهقة الى الهاوية! من المجد والمُلك الى السَّبْي والعبودية. كانت على وشك أن تُعرَض في الأسواق بعد أن أمر الحاكم بذلك.
وقبل أن تخطو باتجاه النهاية ألقت نظرة رجاء على الرجل لعلّه يشتريها.
هفت الرجل معترضاً، رغم غضب الحاكم:
ـ لايجوز بيع بنات الملوك.
تذكّر الصحابة كلمات قالها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم وقعت سفّانة ابنة « حاتِم الطائيّ » في الأسر: ارحموا عزيزَ قومٍ ذَلّ.
لقد نسيها الجميع، وها هو أخو النبيّ يذكّرهم بعد تطاول الأيام.
ـ وما هو الحلّ إذن ؟! تساءل الحاكم حنَقاً.
ـ أعرُض عليها أن تختار رجلاً من المسلمين يتزوّجها، ويُحسَب مهرها من عطائه.
تصاعدت صيحات الاستحسان من زوايا المسجد. كانوا بشوق الى ملكة فارس، تُرى مَنْ ستختار؟! إنّها على كلّ حال تمثّل أُمّة كانت تحكم نصف العالم ذات يوم.
وراحت ابنة كسرى تبحث عن رجل تلوذ به، تتأمّل الوجوه تبحث عن الإنسان.. تبحث عمّن يهبها رحمة الأب ودفء الأُمّ.
واستقرت عيناها على شابّ أقنى الأنف، كأن عينيه نافذتان تطلاّن على عوالم تزخر بالنور والصفاء والحريّة؛ فأشارت اليه.
هتف بعضهم إعجاباً:
ـ ما أحسن ما اختارت! وهل هناك من هو أشرف من سبط محمّد وابن سيّد العرب.
قال سيّد العرب لابنه وقد تذكّر نبوءةً سمِعها من رسول السماء:
ـ لَيلِدنّ لك منها صبيٌّ هو خير أهل الأرض.
الرحيل المبكّر
كانت ترنو الى وليدها بعينين مجهدَتين، وها هو يغفو الى جانبها كقمر صغير، كوردة نسرين تتفتح للربيع.
كانت ترنو إليه بحزن. نداء ما يضجّ في أعماقها كأنّه يدعوها للرحيل. الرحيل الى عوالم بعيدة.
فتح الصبي عينَيه كأنّه يبحث عن أُمّه؛ هزّ المهد بقدمه الصغيرة.
تجمّع خوف بريء في عينيه، وطافت وجهَه المستدير غيمةٌ حزينة وانبعث صراخ طفولي فيه نشيج الميازيب في مواسم المطر.
كان الصوت يخترق أُذنيها.. يدوّي في أعماقها يفجّر ينبوع الأُمومة.. ولكنّ الجسد الخائر لم يَقوَ على الحراك، وقد أوشكت الروح على الرحيل والصبي يصرخ ويصرخ كأنّه يتشبّث بروح وهبته الروح.
تمتمت بأسى:
ـ ابكِ يا ولدي الحبيب.
ثم أغمضت عينيها الواهنتين لتغفو بسلام؛ فيما ظلّ الصبي يبكي.
كانت السماء تسحّ مطراً ناعماً، وكأن الغيوم تبكي بصمت، وامتزج بكاء الصغير مع نشيج الميازيب. لكأن الأقدار رسمت لهذا الصبي طريقاً منقوعاً بالدموع مضمَّخاً بحزن سماويّ ورثه أجداده عن آدم يوم قُتِلَ هابيل.
وتمرّ السنين، والتاريخ يشعل الحوادث المدمّاة هنا وهناك.
تدفقت دماء جدّه في المحراب قانيةً تلوّن أُفق التاريخ، حتّى إذا مضت خمسون سنة على الهجرة أشعل التاريخ حادثة في منزل عمّه سبط النبيّ وريحانته.
كان الحسن يتلوّى من الألم.. آلام رهيبة كخناجر تغوص في قلبه تمزّق كبِده.
وقف عليّ إلى جانب أبيه يراقب عمّه بحزن.
هتف الحسين عليه السّلام بمرارة:
ـ ألا تُخبرني بمَن دسّ إليك السمّ ؟
تمتم الحسن عليه السّلام وكأنّه يحدّث نفسه:
ـ لقد سُقيتُ السمّ مراراً فلم يفعل مثل هذه المرّة.
شعر بأن ناراً مجنونة تشعل الحرائق في أعماقه، ماذا يقول لأخيه ؟! انّه يعرف من دسّ السمّ، هناك في بلاد الشام رجل من طلقاء جدّه يخلط السم بالعسل.. سلاح جديد يستخدمه منذ سنين بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
رجل تحوطه سيوف وقلاع؛ وما « جعدة » إلاّ ضحية مرض وبيل، عقدة ورّثها قابل أبناءه.
وأغمض الحسن عينيه ليفتحهما في عالم آخر.. عالم مليء بالمسرّات الخالدة.
ومضى التاريخ يشعل الحوادث، مات « ابن كلدة » طبيب العرب وكان قد أخذ الطبّ عن أهل فارس، وماتت عفراء وكانت من أهل البادية يتغنَّون بقصّة حبّها العذري لابن حزام؛ وماتت ميمونة وكانت امرأة وهبت نفسها للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
مضى التاريخ يشعل الحوادث، ارتفعت في سماء « الفسطاط » بمصر أوّل منارة في الإسلام، والجيوش الإسلامية تدقّ بعنف أبواب القسطنطينيّة واستُشهد أبو أيوب الأنصاريّ فدُفن تحت أسوارها.
ومات سعد بن أبي وقّاص آخر المهاجرين وترك بقصره « العقيق » ذهباً وفضة وابناً سيسلّ سيفه لمحو التاريخ الهجري.
رقصة النمر
دار الزمن دورته وأطلّ عام ستين، عام فيه يُضام الناس وفيه يعصرون، مات معاوية.. وقد حوّل المنبر الى عرش فأورثه ليزيد. كان يزيد في « حوران » يقضي وقته في ملاعبة قرده، مستمتعاً بكلاب الصيد الّتي ملأت الجوّ نباحاً كشرطة أغضبها فرار ثائر كانت قد ألقت القبض عليه.
دخل قصره وقد بدت عيناه جمرتَين متوقّدتين. ألقى نفسه على السرير وأشار إلى الحاجب إشارة عرف مغزاها على الفور.
دخلت جارية رومية تحمل إبريقاً فيه خمرة معتّقة، برقت عيناه شهوة وكادت نظراته تفترس مفاتنها.
كان الحاجب يصغي من وراء الأبواب الى ضحكات خليعة.
غرقت « حرّان » في بِركة الظلام، توثّبت شياطين الجنّ والانس وتحفزت النمور المختبئة، حطّمت قضبان الصدور، وراحت تعربد.
يزيد يتقلّب على فراش نسجته ديدان القز، والى جنبه تمدّد قرده « أبوقيس » فاغراً بوزه ببلاهة.
وفي عالم الأشباح رأى أنهاراً من دم تتدفق ما بين « الشامات » وبين « الحِيرة »، ورأى جماجم وضحايا؛ أجساداً بلا رؤوس ورؤوساً بلا أجساد، ورأى نفسه يخوض أمواج الدم، يغرق في بركٍ حمراءَ حمراء.
هبّ من نومه مذعوراً، وقد توقدت عيناه فبدت كجمرتين أو كوّتين مفتوحتين على جحيم مستعرة.
فجأة دخل أحدهم يحمل معه كتاباً .. فأوجس يزيد خيفة. كانت سحنة الرجل بلا لون؛ فقد حار هل يظهر حزنه بموت معاوية، أم يتظاهر بفرح من أجل يزيد، خليفة للمسلمين جديد!
رقص النمر المتوثب في الأعماق.. وجد نفسه طليقاً حرّاً. ها هي الدنيا تركع عند قدميه، والرجال تحني هاماتها له، سيكون الآمرَ الناهي من شواطئ بحر الخزر الى عدن.
فجأة قفز اسم الحسين الى الذاكرة. هتف متوعداً:
ـ هذا الشجى الّذي يعترض حلقي.
أصدر يزيد أوّل أوامر الخلافة:
ـ إلى دمشق.
بدء العاصفة
كانت أزّقة المدينة غارقة في اللّيل، وبدت النجوم كقلوب واهنة تنبض من بعيد، وقد جنح القمر المثلوم للمغيب فبدا كوجه مكدود أرهقه السهر.
كان رجل يمضي قُدُماً يشقّ طريقة في الظلام، وفي رأسه فكرة واحدة؛ أن يبلّغ الحسين بدعوة « الوليد » أمير « المدينة » وحاكمها المطاع.
أفاق عليّ عليه السّلام على صوت خبطٍ للباب، وأدرك أنّها قبضة شرطي جاء بأمر ما.
قال الحسين عليه السّلام وهو ينظر إلى النجوم البعيدة:
ـ رأيت في عالم الأطياف منبر معاوية منكوساً وقد شبّت النار في قصره.. وما أظنّه إلا هالكاً، فجاءوا يأخذون البيعة ليزيد.
أمسك سبط محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم قضيباً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال رجل هاشمي:
ـ قد يغتالونك، فالظلام يخفي سيوفاً وخناجر.
أجاب ابن محّمد:
ـ لا تخشَ شيئاً. أنتم ثلاثون رجل، تأهّبوا عند الباب، فاذا سمعتم صوتي قد علا، فاقتحموا.
جلس الحسين عليه السّلام قبالة الوليد، وكان ابن الزرقاء ينظر بحقد ولؤم.. تمتم الوليد وكأنّه يلوك الكلمات بصعوبة:
ـ كان معاوية سور العرب.. قطع الله به الفتنة وملّكه على العباد وفتح به البلاد، إلا أنّه قد مات فخلّف يزيدَ من بعده وهو يريدك أن تبايع.
أجاب الحسين:
ـ مثلي لا يبايع سرّاً.. فاذا دعوتَ الناس غداً دعوتني معهم.
أطرق الوليد وقال:
ـ صدقت أبا عبدالله، انصرف إلى منزلك.
انبرى مروان بخبث:
ـ احبسْه أيّها الأمير حتى يبايع أو تضرب عنقه.
هتف الحسين عليه السّلام بغضب:
ـ يا ابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟!
وأردف وهو يخاطب « الوليد » معلناً صرخة مكبوتة منذ عشرين سنة:
ـ أيّها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلَف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيدُ شاربٌ للخمر قاتل للنفس المحرّمة، ومثلي لا يبايع مثله.
حاول الوليد أن يتفادى العاصفة بمثلها، فالتمعت خناجر في الظلام واقتحم رجال دار الإمارة، ولاذ ابن الزرقاء مرعوباً خلف أميره.
غادرت العاصفة مجلس الأمير.. تركته خاوياً على عروشه، وأطلّ « مروان » كجردٍ يُخرج رأسه بحذر:
ـ عصيتني ولن تحصل على مثل هذه الفرصة.
ـ وبِّخْ غيري يا مروان. أتريدني أن أقتل سبط محمّد ؟!
ـ إذن لن يبايع حتّى تتساقط القتلى.
هز الوليد رأسه دون أن ينبس ببنت شفة. ربما كان يفكر بالأفق المضمّخ بلون الدماء، إنّه يعرف يزيد.. ذلك النزِق المتهور. أو لعلّه كان يعقد مقارنة بين مروان وأُمّه الزرقاء، وكان بيتها تخفق فوقه الرايات حيث يعبر الرجال مستمتعين. وبيت الحسين عليه السّلام حيث منزل فاطمة مختلَف الملائكة وأثر جبريل. يالَسخرية القدر!
وعندما أوى الوليد الى فراشه همست زوجته بمرارة:
ـ كيف تسبّه؟!
ـ هو بدأني بالسبّ أوّل مرّة.
ـ أتسبّه وتسبّ أباه إن سبّك.
أغمض عينيه المحتقنتين وتمتم بندم:
ـ لن أفعل ذلك أبداً.
في الطريق إلى مكّة
هجعت العيون، وأوت الكائنات إلى مضاجعها .. فالليل أعشاش دافئة، ومنازل هادئة، وعالم تطير فيه الأرواح تحلّق بعيداً في دنيا شفّافة، تتسلل من ثيابها السفلى، تخلع أهابها الجسدي لتحلّق في عوالم الذرّ؛ ولو أصغيتَ السمع تلك الليلة لسمعت خطىً هادئة تتخذ سمتها نحو قبر يضمّ رسول السماء إلى الأرض، ولو دققت النظر لرأيت رجلاً أقنى الأنف أشمَّه، في عينيه تتألّق النجوم، أنفاسه كأنفاس الفجر في لحظات الفلق.
كان السبط يشقّ طريقه في أزقّة المدينة الغافية، فهي لاتصحو على صوت خطاه، إنّها لن تستيقظ إلاّ على سنابك خيل مجنونة، هاهو يتخذ سبيله نحو جدّه ينوء بحمل أمانة أبت السماوات حملها والأرض.
أدرك عليّ ما يموج في أعماق أبيه من هموم، منذ زمن وهو يصغي إلى استغاثات تأتي من بعيد.. من أرض السواد، من مدينة كانت ذات يوم عاصمة جدّه، ها هي اليوم تستيقظ .. تتأوّه من سياط الجلاّدين، تبحث عن رجل منحها المجدَ يوماً ما.
كان عليّ عليه السّلام في ركن من حجرة طينية متوجهاً بكلّيته صوب أوّل بيت وُضع للناس، قلب يخفق كما يخفق النجوم بضوئها الأزرق.
تنساب الكلمات من بين شفتيه كنهرٍ هادئ تترقرق في سمع الكون، لحظات يلتحم فيها الإنسان بالعالم الأكبر في لحظة اكتشاف كبرى، حيث تنحسر الأشياء عن ظاهرها الخادع، فتبرز الحقيقة ناصعة أن لا شيء سوى الله.. الله وحده. الكلمات الإنسانيّة تتدافع كأمواج متلاحقة باتجاه عوالم لا نهائية.. وحده صوت الإنسان يعبّر عن الحقيقة في صمت الليل:
ـ اللّهمّ يا ملاذَ اللائذين.. ويا مَعاذَ العائذين.. ويا عاصم البائسين.. ويا مجيب المضطرين.. ويا جابر المنكسرين.. ويا مأوى المنقطعين.. ويا ناصر المستضعفين.. ويا مُجيرَ الخائفين.. ويا مغيث المكروبين. إن لم أعذ بعزّتك فبمن أعوذ، وإن لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ ؟!
ما أجمل أن يلتحم الإنسان بمسيرة الكون.. وما أسمى أن يكتشف طريقه إلى الله.. وما ألذّ لحظات الحبّ عندما تعرف النفس بارئها فتحلّق بين النجوم وتصطف مع الملائكة تسبّح بحمد ربّها.. فاذا الكون محراب عبادة، والمجرّات محطّات رحيل.
الرواحل تتّخذ طريقها صوب مكّة، وصوت له نفحة السماء يخترق آذان الليل:
ـ فخرج منها خائفاً يترقّب، قال: ربِّ نجّني من القوم الظّالمين.
الصحراء مدُّ البصر، والطريق الّذي رسمته القوافل منذ عشرات السنين يتألّق في ضوء القمر كأنّه يشير إلى مكّة مهوى الأفئدة.
عاد الصوت الملائكي يعيد إلى الأذهان قصّة الشريد الّذي اخترق صحراء سيناء وحيداً:
ـ ولمّا توجّهَ تِلقاءَ مَدْيَن قال: عسى ربّي أن يهديَني سواءَ السبيل.
ـ إلى أين يا ابن محمّد ؟
ـ إلى مكّة.
ـ ألم يهاجر جدّك إلى يثرب بحثاً عن وطن.. عن أرض يُعبَد فيها الله وحده؟
ـ أجل ويثرب في قبضة الطلقاء.. في أيدي أعداء الأمس.
ـ كيف عبروا الخندق ؟
ـ لقد رُدم الخندق في « السقيفة » .. بعد أن أغمض النبيُّ عينيه.
إلى حيث لقاء الله..
يا مكة.. يا مدينةً مترعة بالحزن، لم تَطُل فرحتك سوى عدد سنين يوم تهاوت الأصنام أنقاضاً عند جدران البيت العتيق، جاءت أصنام أُخرى.. أصنام من طين.. من صلصال من حمأ مسنون.
وها هو حفيد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء ليحطّم الأوثان الآدميّة... ولكن كيف ويزيد عِجل له خوار.. وقد عكفت الأُمّة عليه فلا صوت ولا رأس يرتفع.. ليقول: لا..
لماذا يدور الحسين في شوارع المدينة.. يطوف حول الكعبة العظيمة.. يدور حول البيت.
لماذا يسعى بين الصفا والمروة يبحث عن نبع ماء مفقود، فمكّة عادت من جديد وادياً غير ذي زرع..
لمَ يبكي عند « خديجة » ؟! فالعام عام حزن وقد غاب أبوطالب وأضحى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيداً يبحث عن أنصاره ليهاجر.
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى:
ـ يا حسين عجّل بالخروج؛ فابن العاص قادم ومعه أمر باغتيالك.
ـ لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم.. رضا الله رضانا أهلَ البيت... ألا من كان موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معي، فإنّي راحل.
ـ إلى أين يا أباعبدالله؟
ـ إلى صحراء بين النواويس وكربلاء.
قال رجل مشفق:
ـ امكث في مكّة فأنت سيّد الحجاز.
ـ لا أُريد أن تُستَحلّ حرمة البيت بقتلي ؟
ـ وهل يجسرون على قتلك ؟!
ـ أجل، لَيعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت.
وقال أخوه من أبيه:
ـ كيف تثق بأهل الكوفة وقد غدرت بأبيك وأخيك ؟
ـ أخشى أن يغتالني يزيد في الحرم فتُستباح حرمة البيت.
وعندما استوى الحسين على ناقته، قال أخوه وقد أخذ بزمامها:
ـ لا تأخذ النسوةَ معك إذن.
قال الحسين وهو ينظر إلى الأُفق المضمّخ بحمرة الشفق:
ـ شاء الله أن يراهنّ سبايا.
ثمانية أيام مضين من شهر ذي الحجّة، غادرت قافلة عجيبة ديار مكّة.. كانت تسير على هون، وبدت الجمال كسفن تبحر في صحراء متموّجة تريد أن تحدّد للتاريخ وجهة جديدة.
النّجوم تتألّق في سماء بدت كعباءة عربية غارفة في الكحل، أشرق هلال المحرّم فبدا في غمرة الظلام وامتداد الرمال ابتسامة مكلوم، أو زورق يودّع بحيرة رائقة.
سرٌّ ما شدّ القافلة إلى هذه البقعة من دنيا الله، لكأنّما تسمّرت حوافر الخيل وبركت النياق كسفن ألقت مراسيها في مرفأ مهجور.
شعر عليّ عليه السّلام بالاعياء يسري في جسده حتّى سلبه القدرة على النهوض، ولكنه جرجر نفسه بعناء إلى خيمة جلس فيها الحسين يرسم لأصحابه طريقاً عجيباً.
تمتم الحسين آسفاً:
ـ النّاس عبيد الدّنيا، والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم.
وسكت هنيهة وأردف:
ـ قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون... وإنّ الدّنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل.. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله.. فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظّالمين إلاّ برما.
هتف زهير وكان قد التقى الحسينَ على قدر:
ـ لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا خالدين فيها لاخترنا الموت معك.
قال برير وكان من قرّاء الكوفة:
ـ انّها نعمة يابن رسول الله أن نقاتل معك وأن، تُمزَّق أجسادنا؛ ليكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.
وهتف ابن هلال بحماسِ من اكتشف ينابيع الخلد:
ـ سِرْ بِنا راشداً شرقاً شئت أو غرباً.. انّا نحب لقاء ربّنا على نيّاتنا وبصيرة من أمرنا.. نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
انبرى الرجال لدقّ أوتاد الخيام كأنّهم يحدّدون معالم مدينة ستولد فيما بعد.
ازدحمت في السماء سحب كأكوام من الرماد تتراكم بعضها فوق بعض، وبدا الجوّ مشحوناً بالغضب؛ واختلطت أصواب الرجال برُغاء الجمال وصهيل الخيل وقعقعة الأسلحة.
انتشر أربعة آلاف من الّذين لا إيمان لهم على طول شاطئ الفرات، وبدت الرماح باتصالها خناجر في خاصرة النهر حيث راحت أمواجه تتدافع باتجاه الجنوب فراراً من نفوس مكتوب عليها الشحّ ولو بقطرة ماء.
مرّت سبعة أيّام من المحرّم، والحصار يشتدّ. كان « ابن سعد » يمنّي نفسه باستسلام القافلة، فالماء يعني الحياة، ومنعه يعني الموت، وهل هناك من يختار الموت على الحياة ؟
ـ ولكنّ فيها أطفالاً.
ـ ليكن، إنّها الحرب.
ـ لقد سقانا الحسين قبل أيام.. سقى ألف إنسان وألف حصان.
ـ لأنّه لايعرف لعبة الحرب..
ـ بل لأنّه إنسان.
ـ ونحن؟!
ـ أنتم لم تعودوا شيئاً. لقد مات الإنسان في أعماقكم، وانتصر الخنزير القابع في نفوسكم.
ـ كفى هراءً .. سوف يستسلم الحسين وعندها سأنطلق إلى « الريّ وجرجان ».. سأحكم بلاداً واسعة.
ـ والحسين ؟!
ـ الحسين.. الحسين.. ليتنحَّ عن طريقي وإلاّ سأعبر فوق جسده... ولتمزّقه سنابك خيل مجنونة.
الذي مات قبل أن يموت
كانت مضارب القافلة بين يدي « ذو حسم »، ولو قُدّر لأحد أن يراقب من فوق قمته المكان لرأى خياماً متناثرة هنا وهناك حيث يمرّ الفرات تتدافع أمواجه كأفعى مذعورة.
كان الحسين عليه السّلام واقفاً أمام خيمة تعصف بها الريح من كلّ مكان. ينظر الى الأُفق البعيد البعيد كما لو أنّه ينظر إلى آخر الدنيا.
جنحت الشمس للمغيب.. رسمت لوحتها الحزينة في السماء كجراح الأنبياء؛ وشيئاً فشيئاً غادرت حمرة الغروب وامتلأ الأُفق رماداً، وفتحت النجوم عيونها وراحت تنبض في صفحة السماء كقلوب خائفة.
في غمرة الظلام المهيمن وقد سكنت الأصوات فلا تسمع إلاّ همساً، هتف ابن سعد متوجّساً وهو يتطلّع إلى « ابن قرظة »:
ـ ماذا تريد ؟!
ـ أرسلني الحسين للاجتماع بك بين المعسكرين.
ـ ومن معه ؟
ـ أخوه العباس وابنه علي.
التفت ابن سعد إلى غلامه وإلى ابنه حفص:
ـ انهضا معي.
كان ابن سعد يجرجر خُطاه مترنّحاً، وآلاف الأفكار تتراكض في رأسه كأرانب مذعورة، قال في نفسه:
ـ تُرى ماذا سيفعل الحسين ؟! هل يفرّ في جنح الظلام ؟ هل يستسلم ؟ هل يقاتل ؟
ولكن كيف يفرّ من كان أبوه عليّاً ؟ وكيف يستسلم سبط محمّد « للطُّلَقاء » ؟!
أم تراه سيقاتل بسبعين رجلاً !!
لاح الحسين من بعيد كنخلة هيفاء.
هتفت ابن سعد مأخوذاً:
ـ أيّة روح ينطوي عليها هذا الرجل ؟!
ـ أتحاربني يا بن سعد.. وأنا ابن مَن تعرف ؟!
وسكت هنيهة ثم أردف مضيئاً له الطريق:
ـ كن معي ودع هؤلاء فهو أقرب إلى الله.
انتصبت أحلام ابن سعد أمام عينيه.. تجسّدت رؤى وخيالات طالما شغلت رأسه واستحوذت على روحه.
رأى فتيات جميلات في القصور يمرحن بغنج، فقال بنفاق:
ـ لسوف يهدمون داري.
ـ أنا أبنيها لك.
ـ وبساتيني.. إنّهم سوف ينتزعونها مني.
ـ أُعطيك « البُغيبغة » فيها زروع كثيرة ونخيل.
ـوعيالي ؟! إنني أخشى عليهم بطش ابن زياد.
أدرك الحسين أنّ هذا الرجل قد مات منذ أمد بعيد.. لم يعد سوى جثّة نتنة.
نهض السبط وقال بغضب:
ـ ما لك ؟! ذبحك الله على فراشك..
وانكشفت له صفحة الغد فقال:
ـ لن تأكل من قمح العراق إلاّ يسيراً.
تمتم « ابن سعد » وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه:
ـ في الشعير كفاية!
ما الدنيا بلا حسين ؟!
جثم صمت رهيب فوق المكان وألقى الحزن كلاكله كغراب أُسطوري؛ والقلوب الصغيرة الظامئة تصغي إلى أصوات بعيدة تأتي من جهة الفرات كعواء ذئاب جائعة في ليلة شتائية. قالت امرأة اسمها زينب:
ـ لقد اقترب العدوّ.
التفت الحسين إلى أخيه:
ـ انهض لترى ماذا يريدون.
عوى ذئب من بعيد:
ـ الاستسلام أو الحرب.
هتف حبيب مستنكراً:
ـ بئس القوم أنتم غداً عند الله.. أتقتلون سبط النبيّ وقوماً متهجدين بالأسحار يذكرون الله كثيراً ؟!
قال عزرة وقد برقت عيناه بشهوة الغزو:
ـ إنّك تزكّي نفسك ما استطعت.
ردّ زهير:
ـ ان الله قد زكّاها يا عزرة. لقد سوّلت لكم أنفسكم أمراً عظيماً !
ـ ومتى كنت شيعة للحسين يا زهير ؟!
ـ جمع بيني وبينه الطريق.. فذكرت به محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال عزرة بصفافة:
ـ إنّنا نمتثل لأمر خليفته.
ـ يزيد !!
ـ أجل أميرالمؤمنين يزيد.
هتف العباس ليضع حدّاً للمرارة:
ـ إذن أمهلونا هذه العشية إلى غد.
ردّ ابن سعد وقد ذهبت به الظنون:
ـ إلى غد.. ولكن إمّا الاستسلام أو الحرب.
أصدر ابن سعد أمره بالانسحاب، وشيئاً فشيئاً انحسرت قعقعة السلاح وكفّت الخيل عن الصهيل، ولم يبق سوى أصوات تشبه عواء الذئاب في ليالي الزمهرير.
تسمّر التاريخ عند خيمة أضاءها سراج واهن.. كان يصغي إلى كلمات آخر الأسباط:
ـ أحمدك اللّهمّ على أن أكرمتَنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدّين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين.
كانت نظراته الدافئة تغمر رجالاً ينشدون الموت من أجل الحياة، فانسابت كلماته كنهرٍ هادئ:
ـ إني لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ من أهل بيتي.. وإنّي أظنّ أنّ يومنا من الأعداء غداً؛ وانّهم انّما يطلبونني ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري، فانطلقوا جميعاً وهذا الليل فاتّخِذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في المدن البعيدة.
ـ وأنت يا سيدى ؟
ـ ما كان للحسين أن يفرّ.
ـ ما قيمة الدنيا كلّها سواك.
قال ابن عوسجة:
ـ والله لو لم يكن معي سلاح لقاتلتهم بالحجارة.
وقال الحنفي:
ـ لو قُتلتُ سبعين مرّة ما تركتك، فكيف وهي قتلة واحدة.
وقال زهير وهو يتطلّع إلى وجه مضمخ بعبير النبوّات:
ـ لو قُتلتُ ألف مرّة فلن أدعك وحيداً.
وفي تلك اللحظات حيث تلتحم السماء بالأرض أشار الحسين فانكشفت الآفاق عن جنّة عرضها كعرض السماوات والأرض.. جنّات من نخيلٍ وأعناب، والأنهار الخالدة تتدفّق مطّردة، بدا الفرات إزاءها كخيط من الملح والرماد.
الوصيّة المريرة
يالها من ليلة عجيبة تمرّ لحظاتها كسنينَ متمادية، وساعاتها كالقرون لا تكاد تنتهي لكأنّها تريد أن تستوعب التاريخ البشري بأسره.
جلس عليّ متهالكاً وبدا جسمه حطاماً حتّى لم تعد له قدرة على النهوض، يتطلّع إلى النجوم.. إلى عالم لا نهائي.. عالم مفعم بالصفاء.. عالم بعيد عن ويلات الأرض وما يجري فيها على يد الإنسان.
كانت خيمته إلى جوار خيمة أبيه.
الحسين عليه السّلام وحيد وحيد.. يعرف أنّها النهاية أو البداية.. راح عليّ عليه السّلام يرهف سمعه لكلمات أبيه وهي تمتزج مع صوت يشبه شحذ السيوف.. فالمعركة وشيكة قابَ قوسين أو أدنى.. وغداً يومُ الفصل.
تطلّع الى عمّته التي دخلت توّاً ربما لتمرّضه.. جاء صوت الحسين هادئاً مثل لحن حزين، فيه عتاب للزمن الذي لا يكفّ عن الغدر:
يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ
كم لك بالإشراق والأصيلِ
من طالبٍ بحقّه قتيلِ
وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي
ما أقرب الوعدَ إلى الرحيلِ
والدهرُ لا يقنع بالبديلِ
شعرَ عليّ بالكلمات تغوص في قلبه.. تُمزّق شرايينه وتذبحه من الوريد إلى الوريد، كاد أن يغرق في موجة طاغية من البكاء، والبكاء يكاد يكون سلاحاً لمواجهة الزمن الغادر. فهذا الغضب المتفجر في الأعماق يدمّر الأشياء.. يحيلها الى حطام إذا لم يجد متنفَّساً له في الدموع. فالسماء ما تزال مشحونة لا تكفّ عن البروق، والرعود لن تهدأ حتّى ينهمر المطر مدراراً.
وبكى عليّ بصمت كسماء تمطر على هون.
لم تتمالك زينب.. لم يتحمل صبرها العجيب ما تسمع، فهبّت تجرّ الذيول الى خيمة كالعرين.
هتفت بصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر:
ـ ليت الموت أعدمني الحياة.. اليوم ماتت أُمّي فاطمة وأبي عليّ.. يا خليفة الماضين وثمال الباقين.
ورمق الحسين شقيقته الّتي اختارت طريقه، وقال مصبّراً.
ـ يا أُختاه، تعزَّي بعزاء الله.. إنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وكلّ شيء إلى . زوال ويبقى وجه الله وحده.
قالت وهي تنتحب:
ـ أفتغصب نفسك اغتصاباً.. إنّ قلبي لا يطيق.
كان صمت الليل كفيلاً أن يجعل من الأُذن الآدمية مرهفة تلتقط حتّى دبيب الهوام، فكيف بالبكاء في زمن غادره الفرح وبدت مقرفة فيه الأشياء.
وجد الحسين نفسه وسط نسوة ينشدن الأمن في زمن الخوف، كطيور مذعورة تبحث عن أعشاشها في غمرة الظلام.
نظر الحسين إلى زينب نظرة طويلة أودعها كلّ ما يريد.
قال بحزن:
ـ يا أُختاه ويا فاطمة ويا رباب.. إذا قُتلت فلا تشقُقْن علَيّ جيباً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تلقن هجراً.
نهض الحسين يواجه الغد القادم بعد ساعات، فلقد اشتدت ظلمة الليل، وبدت النجوم أكثر بريقاً لكأنّها عيون مفتوحة ترقب ما يجري على شاطئ الفرات بين النواويس وكربلاء. وهناك على شاطئ النهر قطعان الذئاب تنتظر لحظة الانقضاض على الانسان.
لئلاّ تتكرّر « أُحد »
ما تزال النجوم مسمَّرة في السماء كمسامير في لوح كُحْلي وقد بدا الجوّ مشحوناً بالخطر، فالقافلة التي ألقت مراسيها في هذه البقعة من الأرض تحاصرها قطعان الذئاب.
خرج الحسين يتفقّد أرضاً ستصبح بعد ساعات ميداناً لملحمة عظيمة يتحطّم فيها الإنسان، ولكنه لن يُهزَم أبداً، تتمزّق فيها الأجساد الآدميّة، أمّا الروح فستبقى متألقة قويّة كما خلقها الله وأودع فيها كلمته.
هتف « الجَمَلي » وكان قد أقلقه خروج الحسين إلى أرض يُحدِق بها الغدر من كل مكان:
ـ الى أين يا سيّدي الحسين ؟ لقد أفزعني خروجك وحيداً، أخشى عليك الغدر.
ـ خرجتُ أتفقّد هذه التلال.. أخشى أن تكون مَكْمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون.
و أردف وهو يشدّ على يده بدفء:
ـ انظر .. خيامنا مكشوفة الظهر؛ علينا أن نحفر الخنادق حتّى لاتفاجئنا الخيل.. والخيام مبعثرة، علينا أن نقارب بينها حتّى لاينفذوا خلالها.
هتف الجملي مبهوراً برجل لا يعرف اليأس رغم عنف العاصفة:
ـ سيكون القتال في جبهة واحدة ؟
ـ نعم في جبهة واحدة..
لم تحنْ لحظة الفلق بعد عندما دبّت في معسكر الحسين حركة تشبه دويّ النحل.. النحل الذي لا يعرف غير العمل.
تشابكت أوتاد الخيام في عناق صميمي كأنّه يعكس تلاحم القلوب.. القلوب التّي لا تعرف غير الحبّ.
وانبرى رجال يحفرون الخنادق ليملأوها حطباً؛ فإذا اشتعلت المعركة تحوّل الخندق الى خطوط ملتهبة.
شدّ رجل صحب النبيَّ وشهد معه « أُحداً » جبينه بعصابة فأضاء مشهد في ذاكرته.
كان صوت النبيّ وهو يخطط للمعركة عند جبل أُحد مدويّاً:
ـ انضحوا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا.
انطلق الرماة الى جبل « عينين » ووصايا النبيّ في آذانهم: احموا لنا ظهورنها.. ارشقوهم بالنبل؛ فإنّ الخيل لا تَقْدم على النبل .. انّا لا نزال غالبين مالبثتم مكانكم.
انطفأ المشهد.. وبلع الصحابي ريقه بمرارة لأنّه تذكّر كيف نسي الرُّماةُ وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فاجتاحت خيولُ قريش جيشَ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وراحت تفتك به كذئاب في ليلة زمهرير موحشة.
راح يحدّق بسبط محمّد لكأنّه ورث بصيرة جدّه.. رجل لا يعرف للهزيمة معنى.. انّه يقتحم الموت اقتحاماً، ينهال على صخرة العطش ليفجّر منها ينابيع من سلسبيل.
انفلق الفجر وتبيّن للكائنات الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وشيئاً فشيئاً لاحت من بعيد ذري النخيل تحف الشطآن كعيونِ حورية شهيدة .. وقد نزلت سورة المقاومة.
ها هي الذئاب تعوي أسكرتها شهوة القتل، كدوّامة راحت القبائل تدور حول قافلة جاء بها القدر.
كان عليّ ينوء بنفسه.. بجسده الواهن.. وقد أخفقت روحه العظيمة أن تنهض به؛ وفار غضب سماوي في أعماقه وهو ينظر إلى والده متقلّداً سيف محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل أشباه الرجال، إنّهم لا أيمانَ لهم.
تمتم بغضب:
ـ يا اُمّة السوء! بئسما خلفتم محمّداً في ذرّيّته.
ودمعت عيناه وهو يراقب أباه يستوي على ناقة. فبدا في عليائه كنبيّ يعِظ قومه وينذرهم سوء العذاب، راح يُصغي إلى كلمات الحسين وقد أشرقت شمسُ أطولِ يوم في التاريخ.
ـ أيّها الناس، إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فَناءٍ وزوال، متصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال؛ فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فانّها تقطع رجاء مَن ركن اليها، وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتمُ الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ ربُّنا وبئس العبيد أنتم. أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرّسول محمّد، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكرالله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون. إنّا لله وإنّا اليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين.
كانت الكلمات تنفذ في قلبه تفجّر حزناً وغضباً ودموعاً.
غامت المرئيات أمام عينيه، وتلاشت زعقات الرجال وصهيل الخيول، وشعر بروحه تحلّق بعيداً حتّى لم يعد يشعر بكلّ ما يجري حوله من أهوال.
رد: وسلاحه البكاء (رواية)
مشكور يا عمده علي الموضوع الطويل جدا الي خلاني انام و انا بقراه و لسه مش خلصتها
مواضيع مماثلة
» رواية بنى اسرائيل بعد هلاك فرعون -1
» رواية بنى اسرائيل بعد هلاك فرعون -2
» مساء البكاء سيدتي
» لمادا الفتيات سريعات البكاء
» عندما تحب وتعشق وتكتشف أن حبيبك .....................................رواية جنااااااااان
» رواية بنى اسرائيل بعد هلاك فرعون -2
» مساء البكاء سيدتي
» لمادا الفتيات سريعات البكاء
» عندما تحب وتعشق وتكتشف أن حبيبك .....................................رواية جنااااااااان
العمــــدة :: القائمة :: الموضيع العامه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى